من سقوط الأعراف إلى خصخصة الفضاء: جذور الجيتو الاجتماعي والعشوائيات العمرانية #2
- Ezzat Baghdadi
- 17 أبريل
- 5 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 7 مايو

منذ لحظة إقراره، لم يكن قانون الطابو لعام 1858 مجرد إجراء إعادة تخصيص أراضي، بل إيذانًا ببدء تفكك البنى التقليدية التي كانت تحكم العلاقة بين الأرض والمجتمع في المشرق. القانون، الذي جاء تحت ضغط القوى الأوروبية، أطلق سلسلة من التغيّرات العمرانية والاجتماعية التي ستفضي لاحقًا إلى ولادة ما يمكن تسميته بـ"الجيتو الاجتماعي" و"العشوائيات العمرانية" — وهي ليست فقط نتيجة للفقر أو النزوح، بل تعبير عن سياسات ممنهجة في إدارة المجال.
لم يكن قانون الطابو الصادر عام 1858 مجرد إصلاح إداري، بل لحظة انكسار كبرى في التكوين العمراني والاجتماعي للمشرق. وُلد القانون تحت ضغط الدائنين الأوروبيين، الذين سعوا لتحويل الأرض إلى أصل مالي يمكن تداوله وضمانه. لكنه كان أيضًا أداة لتسهيل الانسحاب السلطاني من الأطراف، وإعادة توزيع النفوذ بين نخب تدرك أن السلطنة تتفكك ببطء.
بعد صدور القانون، بدأت الأعراف الزراعية تنهار، ولم تعد الأرض مجالًا للتعاون، بل للتنافس والتملك والانفصال. مذكرات مدحت باشا - والي العراق والشام - تكشف حجم التهميش الذي عاشته الولايات العربية، وتوضح أن السلطنة كانت تنكمش سياسيًا واقتصاديًا، فيما تتصاعد مشاعر الخذلان في دمشق، والموصل، وحلب. وقد أشار إلى أن الفلاح العربي فضّل قطع الطرقات على الزراعة بسبب فرض الضرائب الباهظة في ظل غياب نظم الضمان الجماعي.
في هذا الفراغ، توقفت الزراعة في حوض الفرات، وتفككت البنية التحتية الريفية، وظهر ما سُمي بـ"هجمات البدو" — وهي في الواقع موجة اضطراب مركّبة، انضم فيها فلاحون مفلسون إلى قبائل ناقمة، وبدأت الطرقات تُقطع ليس فقط طلبًا للغنيمة، بل احتجاجًا على فقدان الحق والهيكل معًا.
انهيار المرجعية الجماعية: من الفتوى إلى الرخصة
كانت الأعراف الزراعية تحكم العلاقة بين الأرض والمجتمع، تشكّل ما يشبه الفتوى الأخلاقية التي تردع الجشع وتمنع التفكك. لكنها انكسرت أمام الورقة الرسمية، فصار ما لا يجوز عرفاً وشرعًا يمكن تمريره عبر الطابو. ومع تراجع دور المختار والشيخ والزعيم المحلي، ظهرت طبقة الأفندية الجديدة: كاتب العدل، المحامي، موظف السجل العقاري.
كانت هذه الأحداث نقطة حاسمة في تكوين صراع النخب التقليدية التي تعتقد أن التمسك بالتقاليد رسوخ، مع النخب التي تريد تحديث النظم لاعتقادها أن التحديث حاجة أساسية للتكيف مع التحولات العالمية وتمكين المجتمعات ضمن صراع البقاء.
في غياب الضابط العرفي، وظهور أنماط حوكمة مستعارة من النظريات الأوروبية – لم تتطور من التجربة المحلية – أصبحت الأرض بؤرة تنازع لا تعاون. المياه تُحتكر، الحدود تُحرّك، والمجتمع يتشظى أمام سلطة محلية متنافسة وسلطة مركزية تتدخل عندما تشاء، وتتجاهل عندما يُناسبها.
من الحقل المشترك إلى الحصة القابلة للبيع
فتح قانون الطابو الباب أمام إعادة تعريف الملكية: من حقل مشاع إلى أصل خاص قابل للتجزئة والمضاربة. بهذا، انقلبت الأرض الزراعية من مصدر رزق جماعي إلى أصل استثماري. ظهر "صاحب الحصة" الجديد، غالبًا من أبناء المدن، مستفيدًا من تراجع الجماعات المحلية عن التسجيل بسبب ضعف قدرتهم التعليمية وفهم النظم الدخيلة. وبدأت حلقات التأجير تتوسع، وتحول الفلاح تدريجيًا إلى عامل في أرضٍ كان جزءًا من روحها.
المدينة المضطربة: تفكك التجارة وتنافس الوكالات
لم تكن الأضرار محصورة بالريف. دمشق نفسها بدأت تفقد دورها بوصفها مدينة–جماعة، وتحولت إلى ممر للتجارة الأوروبية. تفككت شبكة التبادل التقليدي، وبدأت الشركات الأجنبية تنافس الأسواق المحلية. لم تعد المدينة عاصمة إنتاج ومبادلة داخلية، بل نقطة عبور تجاري للسلع المستوردة، ما أدى إلى تآكل دور الحرفيين والصناعات التقليدية التي كانت تشكّل البنية الاقتصادية والاجتماعية لدمشق.
في هذا السياق، راحت النخب المحلية تتسابق لنيل الوكالات الأجنبية. تحوّل النشاط التجاري من علاقة مباشرة بين المنتج المحلي والمستهلك، إلى وساطة زبائنية مرتبطة بالمستعمر الأوروبي. بذلك، أعيد تعريف الدور الاقتصادي للمدينة من الداخل إلى الخارج، ومن الإنتاج إلى الريع الوسيط.
هذا التحول لم يغيّر فقط شكل الأسواق، بل فكّك البنية العضوية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية داخل المدينة. وفي ظل هذا الانقلاب، تراجعت الصناعات الحرفية، ومعها تراجع دور الحي الدمشقي كوحدة إنتاج ومعيشة وتضامن. بدأ التحول من مدينة–مجتمع إلى مدينة–ممر.
من منظور التخطيط الحضري والريفي
كل ما سبق يمكن قراءته أيضًا كتحوّل في طريقة إنتاج المدينة نفسها، وفي طبيعة علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والبيئية. لم يعد الامتداد العمراني نتيجة لحاجات سكانية محلية، بل أصبح أداة سياسية لتثبيت السيطرة. التوسع لم يكن عفويًا ولا عضويًا، بل موجهًا من "فوق"، بناءً على اعتبارات أمنية لا عمرانية.
الريف القريب، الذي كان يفترض أن يبقى مجالًا زراعيًا مستدامًا ومصدرًا للغذاء، تحوّل إلى أطواق إسمنتية وعشوائية، التهمت الأرض الخصبة لصالح عمران متوتر ومنخفض الخدمة. هذه الأطواق لم تكن مجرد نتيجة للعجز عن التخطيط، بل مجالات مُسيّسة جرى توظيفها لتجريب مشاريع التحول الصناعي والاجتماعي، في انسجام مع تصورات فرنسية حول الجمهورية والمجتمع الجديد.
دمشق تُطوَّق: التوطين كأداة ضبط اجتماعي وأمني
شكّل قانون 1858 نقطة انطلاق لتحول عميق في العلاقة بين الأرض والسكان. فمنذ اللحظة التي ربط فيها القانون الملكية بتسجيل الأفراد في الدفاتر الرسمية، بدأت الدولة العثمانية بإعادة صياغة علاقتها مع المجتمع، ليس فقط عبر الضرائب، بل عبر توزيع المجال نفسه.
اختار العثمانيون زرع المهجرين من الحروب الروسية العثمانية والقوقاز والبلقان في محيط دمشق، في أماكن مثل مرج السلطان، ومصطبة القابون، وسفوح الصالحية. لم يكن الهدف إيواء إنسانيًا، بل إنشاء أحزمة بشرية–دفاعية تحيط بمراكز السلطة.
هذا التأثير الأمني ظل ممتدًا حتى اليوم. في عهد الانتداب الفرنسي، تم استخدام هذا الطوق البشري في صيغة "الضاحية غير المتكاملة". وبعد الاستقلال، استُكملت هذه السياسة مع توطين عناصر الجيش والأمن والمهجّرين في تجمعات غير رسمية. لم يكن ذلك فوضى، بل هندسة سياسية.
الجيتوهات كأداة ضبط: سياسة الاستثناء المتواصل
بهذا المعنى، فإن المجتمعات التي تُعرف اليوم بالعشوائيات ليست مجرد فضاءات فقر وتهميش. إنها جيتوهات سياسية بامتياز، قائمة على استثناء قانوني–اجتماعي مستمر. لم يكن يُراد لها الاندماج، بل أن تبقى في حالة احتواء وضبط، دون الاعتراف بها كمكوّن مدني كامل.
هكذا، لا يمكن فهم تخطيط دمشق، ولا أزماتها المزمنة، دون تفكيك هذه السياسة الطويلة التي حوّلت الأطراف إلى فضاءات ضبط لا شراكة، وأنتجت جيتوهات متجاورة تتحدث بلغات مكانية مختلفة، لكنها تُدار من مركز واحد يرى التخطيط كأداة سلطة قبل أن يكون أداة تنمية.
أزمة الهوية المكبوتة: التعدد المنكّر في مجتمع مكسور
وسط هذه التحولات، بدأت أزمة أعمق بالتكوّن: أزمة كبت الهوية. فعلى الرغم من أن غالبية العائلات الدمشقية تحمل أصولًا متنوعة من أطراف الإمبراطورية العثمانية – كما تعكسه الروايات الشفوية والسجلات العائلية – إلا أن التيارات القومية العربية الصاعدة سعت إلى طمس هذا التعدد لحساب سردية قومية موحّدة.
لم يكن الإدماج يأخذ طابعًا مدنيًا أو تمدينيًا حقيقيًا، بل كان مجارياً للتوجهات الأيديولوجية التي أرادت تعريب المجال والسكان معًا. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، هو كتاب "تاريخ القابون" للمؤرخ فارس العلاوي، الذي يحاول نسب سكان القابون إلى قبيلة مهاجرة من الجزيرة العربية، مخالفًا بذلك الروايات الشفوية للأهالي، التي تعود بغالبيتها إلى مهاجرين من أطراف الدولة العثمانية في تزامن تاريخي بين احروبها في شرق أوربا والقواز وشمال افريقيا.
هذا التلاعب بالسرديات لم يكن مجرد خطأ بحثي، بل محاولة سياسية مبكرة لصناعة تجانس مصطنع، سيكبر لاحقًا ويتحول إلى أداة قمع رمزي، ويغذّي النزاعات المفتوحة، كما حصل عام 2011.
🧭 في المقال القادم، سنتناول كيف أعاد القانون تشكيل البنية الاجتماعية، وكيف نشأت ثنائيات جديدة داخل المجتمع المديني والريفي على حد سواء: بين الفلاح والبرجوازية الناشئة عن الخصخصة، وبين المجتمعات التقليدية والمناطق السكانية الطارئة التي ظهرت في طوق المدينة. سنرصد كيف ساهم الاستعمار، عبر أدوات التخطيط وقوانين الملكية، في إنتاج هذه الفجوات، لا بوصفها نتائج عرضية، بل كآليات حكم، أعادت رسم التراتبية الاجتماعية عبر الحيز المكاني. #سلسلة_التحول_الحضري | #دمشق_نموذجاً | #03 | #UrbanRecovery | #ConflictResolution | #SyrianGovernance




تعليقات