الإصلاح الزراعي... حين تأخّرت الدولة فاستملكت الأرض وقتلت الواحة #10
- Ezzat Baghdadi
- 18 يونيو
- 7 دقيقة قراءة
المقال الثالث من الفصل الثالث I دولة الضبط: من التفاوت إلى الترويض الحضري I سلسلة التحول الحضري في الدول التي شهدت استعماراً - دمشق نموذجاً

❖ من التفاوت إلى التفتت: قانون الطابو كمفتتح للإقصاء والإصلاح الزراعي كامتداد مشوَّه
حين صدر قانون الطابو العثماني عام 1858، لم يكن مجرد إجراء إداري لتحديث الملكيات، بل لحظة مفصلية في تفكيك الأعراف الزراعية التي حافظت، لقرون، على توازن هش بين الأرض والمجتمع. ففي مناطق حوض بردى والغوطة، كانت الأرض تُدار جماعيًا عبر أعراف تحدد زراعتها، وتمنع البناء فوقها، وتنظّم استخدام المياه الموسمية، ما خلق نظامًا بيئيًا واقتصاديًا متماسكًا.
جاء الطابو ليقلب هذا النظام رأسًا على عقب:
قيد الأرض بوثائق منفصلة عن علاقتها الاجتماعية والإنتاجية.
حوّل الملكية إلى مسألة قانونية فردية، وأقصى الأطر الجماعية التي كانت تنظم المجال الزراعي.
سمح بتسجيل الأراضي باسم مستفيدين حضريين أو نافذين، بعيدًا عن الفلاحين الذين كانوا يستغلونها فعليًا.
وهكذا، نشأ تفاوت اجتماعي وغُبن عميق: فئة قليلة من "المالكين الجدد" أُعطيت شرعية قانونية، بينما حُرم الأغلبية من تثبيت علاقتهم التاريخية بالأرض. لم يكن هذا غبنًا اقتصاديًا فقط، بل تحطيمًا لمنظومة القرى الزراعية باعتبارها وحدة إنتاجية واجتماعية متكاملة. ثم، بعد قرن، جاء الإصلاح الزراعي كاستجابة متأخرة، لكنه لم يحل المشكلة، بل حولها من "التفاوت" إلى "التفتت":
بدل أن يُصلح علاقات الملكية، وزّع الأرض كعطاء ثوري يفتقر إلى نموذج زراعي مدروس.
قسم الملكيات إلى وحدات صغيرة غير قابلة للحياة، مما أربك عمليات التخطيط والتمويل أو تخطيط، ليخلق آلاف الحيازات المتناثرة، التي لا تنتج ولا تُجمع.
ترك الفلاحين دون إرشاد حقيقي أو سوق أو أمن قانوني، فبات كثيرون منهم يفضلون تحويل الأرض إلى سكن عشوائي أو بيعها بدل زراعتها.
النتيجة؟ تفكك المجال الزراعي مرتين: مرة على يد الطابو الذي أطاح بالإدارة الجماعية، ومرة على يد الإصلاح الذي شتّت الحيازة. لم تُستعد العدالة، ولم يُبنَ اقتصاد زراعي حديث. ما بُني كان مجرد توازن جديد هش، بين الريع السياسي والعجز الإنتاجي.
في دمشق، كانت الغوطة خير مثال على هذا التحول. فقبل الطابو، كانت الأرض تُدار بالأعراف، ويُحدّد الحق في الفلاحة والمياه والشجر وفق أنظمة محلية متراكمة من الفقه الإسلامي والتقاليد الاجتماعية. ومع تطبيق القانون، بدأ "المالك القانوني" يختلف عن "المستغل الفعلي". وبمرور الزمن، نشأت فجوة بين من يحمل سند الطابو وبين من يفلح الأرض فعليًا.
هذا التشوّه لم تُصلحه الدولة السورية المستقلة. بل عزّزته. وفي زمن الوحدة (1958–1961)، بدأت مراسيم الإصلاح الزراعي تحت شعار "إعادة الحق للفلاح". وفي عهد البعث، أصبحت المصادرة تحت غطاء الإصلاح شعارًا دائمًا. لكن المضمون لم يتغير: الدولة تتوسّط الأرض والفلاح، وتعيد توزيعها حسب ميزان الولاء.
فلاحو منطقة الزبداني والكسوة مثلاً شهدوا موجات توزيع للأراضي بعد تأميم مساحات كبيرة كانت تابعة لأسر كبيرة أو وقف ديني. لكن دون أن تُنشأ شبكات تمويل أو تدريب أو تسويق. حصل الفلاح على الأرض، لكنه بقي بلا أدوات.
النتيجة؟ الأرض لم تعد موروثًا مجتمعيًا يُنقل بالعرف، ولا أصبحت مشروعًا إنتاجيًا حديثًا. بل تحوّلت إلى "عُهدة سياسية مؤقتة"، توزّعها الدولة ثم تتركها تتآكل بلا دعم.
❖ التذرر كآلية استنزاف: حين صار الإرث لعنة على الحقل
أحد أكبر الأخطاء البنيوية في الإصلاح الزراعي هو غياب الحد الأدنى من وحدة الحيازة القابلة للحياة.فمع تزايد عدد السكان، وغياب قانون يمنع تقسيم الأرض وراثيًا إلى ما دون المساحة الاقتصادية، تحوّل الإرث إلى آلية تفتيت حادة:
أرض مساحتها 5 هكتارات قد تُقسّم بين 7 ورثة، ثم كل واحد منهم يُقسم نصيبه لاحقًا بين أبنائه، وهكذا حتى تصبح الحيازة في النهاية أقل من نصف هكتار، لا تُنتج شيئًا ولا تسمح بالمكننة أو الاستثمار.
في حرستا مثلًا، تحوّلت كثير من المزارع العائلية الصغيرة إلى مجرد أحواش أو أراضٍ بور، بعدما فقدت اقتصاديتها. البعض باع أرضه، والبعض بنى عليها عشوائيًا، والبعض هجرها.
هذا التذرر جعل الدولة عاجزة عن التخطيط: كيف تضع خطة للري أو التسويق في قرية تتكوّن من مئات الحيازات المتداخلة؟ من سيشارك؟ ومن يملك الحق في اتخاذ القرار؟
بدل أن تكون الأرض رافعةً للنهوض، تحولت إلى أصل ميت: لا يمكن استثماره، ولا يمكن بيعه بسهولة بسبب النزاعات الوراثية، ولا يمكن التخلي عنه اجتماعيًا بسبب الثقافة السائدة.
وفي هذا السياق، لم تعد العلاقة بين الأرض والفلاح علاقة إنتاج، بل علاقة عاطفية جامدة. بقي الفلاح مرتبطًا بأرضه لا لأنه ينتج منها، بل لأنها آخر رموز الانتماء، وإن كانت لا تطعمه.
❖ فشل العلاقات الزراعية: تفكك شبكة الإنتاج وغياب دورة الحياة
ما يُسمى بالعلاقات الزراعية لا يُقصد به فقط تملّك الأرض أو حراثتها، بل هو النسق الذي يربط الفلاح بالأرض، ويضمن تحويل العمل إلى مردود، والمردود إلى تراكم، والتراكم إلى استقرار. هذا النسق يشمل أدوات التمويل، سلاسل التوريد، النقل، التسويق، الإرشاد، الدعم التقني، والتأمين، وصولاً إلى قدرة الفلاح على التخطيط لموسم كامل دون أن ينهار في منتصف الطريق.في سوريا، تم تفكيك هذا النسق تدريجيًا:
الجمعيات الفلاحية، التي أنشئت في البداية لتكون أطرًا تنظيمية تساعد على توزيع الموارد والبذور والأسمدة والقروض، تحولت مع الوقت إلى مجرد أدوات بيروقراطية بيد الحزب الحاكم، استخدم اتحاد الفلاحين كاداة لضبط الفلاحين سياسيًا لا لخدمتهم اقتصاديًا.
الإرشاد الزراعي، المفترض أن يكون الذراع التقني للسياسات الزراعية، غرق في الشكلية والانفصال عن الواقع. ففي الوقت الذي كانت فيه الآفات تتغير والمناخ يتحوّل، بقيت نشرات الإرشاد تكرّر نفسها، دون مختبرات فاعلة أو تفاعل مع الأرض الحقيقية. ما يميز المؤسسات السورية هو عدم ترابط علاقاتها. فالعلاقات ضعيفة جداً بين المؤسسة المسؤولة، والتعليم والإنتاج والسوق، وبين كل ما يجري في البلاد وما يتطور في العالم.
الأسواق، التي يفترض أن تُتيح للفلاح بيع إنتاجه بشكل عادل، سيطر عليها وسطاء الريع الذين يشترون المحصول بأسعار بخسة، بما في ذلك المؤسسات العامة، لأنهم يملكون وحدهم وسائل النقل والتخزين والوصول إلى المدن. لم يكن هناك "سوق" بالمعنى الاقتصادي، بل "حلقة احتكار" بين المزرعة والمستهلك.
الدعم المالي لم يكن كافيًا أو عادلًا. فالقروض الزراعية كانت إما مشروطة بولاء سياسي، أو تُمنح بشروط مرهقة يصعب سدادها مع ارتفاع الكلف وتقلّب الأسعار. وبدل أن تعزز هذه القروض الإنتاج، أصبحت مصدرًا للديون والإفلاس.
مع تراجع كل ذلك، بدأ الفلاحون تدريجيًا بالانسحاب من المشهد. لم يكن الانسحاب قرارًا فرديًا، بل نتيجة موضوعية لتفكك السلسلة. لم يعد هناك "مشروع زراعي" بل "محاولة زراعة" في فضاء مليء بالمخاطر وقليل بالضمانات.
❖ مأساة الماء: تراجع الفرات واستنزاف الجوف... وانكسار الأمن المائي
لم يكن الريّ في سوريا مجرد وسيلة تقنية، بل العمود الفقري للزراعة كلها. ومع كل تراجع في وفرة المياه، كانت الزراعة تخسر جزءًا من روحها.
منبع الأزمة كان سياسيًا ومناخيًا في آن: فتركيا، عبر مشاريع "غاب" الضخمة، بدأت بتخزين كميات كبيرة من مياه نهر الفرات منذ الثمانينيات. ورغم الاتفاقات غير الموقعة، التزمت أن لا تقل الحصة السورية عن 500 م³/ثا، لكنها قلّصت هذه الكمية تدريجيًا خلال موجات الجفاف في العقدين الأخيرين، لتصل في بعض الأحيان إلى 200 م³/ثا فقط، ما جعل النهر، الذي كان رمز الخصب، يتحول إلى نهر موسمي خانق.
الرد السوري لم يكن بمستوى الأزمة: مشاريع الري بقيت معطّلة، ولم تُحدّث شبكة الأقنية، ولم تُبنَ خزانات مائية كبرى في الأطراف المتضررة. وهكذا، لجأ الفلاحون إلى الحل الوحيد المتاح: حفر الآبار الجوفية، أحيانًا بعشوائية، وغالبًا بتمويل ذاتي أو بوساطة ريعٍ سياسيّ/أمنيّ.
في ريف دمشق وحده، تضاعف عدد الآبار ثلاث مرات بين عامي 1995 و2010. أكثر من نصف هذه الآبار كانت غير مرخصة، وبعضها عمقها تجاوز 200 متر. وهذا يعني أن المياه التي كانت تحتاج آلاف السنين لتتشكل، تم سحبها خلال جيل واحد.
ومع غياب الرقابة، انتشر الريّ بالغمر، وهو أكثر أنواع الري تبديدًا للماء. تحوّلت الزراعة إلى فعل استنزافي، لا بيئي ولا مستدام، مما فاقم التصحر وأتلف التربة وزاد ملوحتها.
في هذه البيئة، لم يعد من الممكن الحديث عن "أمن مائي" أو "إنتاج زراعي مستقر"، بل عن حلقة مفرغة: تراجع الماء → تقلص الزراعة → هجرة الفلاحين → تحويل الأراضي إلى عقارات → ازدياد الاستهلاك → مزيد من الضغط على المياه.
لم تكن الأزمة أزمة إدارة فقط، بل أزمة وعي بنيوي بأن الماء ليس مجرد مورد بل عماد الاقتصاد والمعيشة. وما لم يتم إعادة هندسة العلاقة بين الماء والإنسان والبيئة، فإن انهيار الزراعة سيكون مجرد أول أعراض الانهيار الأكبر.
❖ ريف بعيد يهجر... وريف قريب يُبتلع
لا يمكن فهم انفجار العشوائيات في محيط دمشق من دون التمييز بين نوعين من الأرياف:
الأرياف البعيدة (كالرقة، دير الزور، وبعض مناطق حوران .. وغيرها): حين فشلت زراعيًا بسبب الجفاف وتراجع الجدوى، أنتجت موجات نزوح كبرى باتجاه المدن الكبرى، خاصة دمشق وحلب.
الأرياف القريبة (مثل الغوطة الشرقية والغربية): كانت الحاضن الرئيسي لهؤلاء النازحين، فشهدت ضغطًا سكانيًا هائلًا دفع المالكين مع رتراجع جدوى الزراعة إلى تحويل أراضيهم الزراعية لبناء مساكن رخيصة على هامش التنظيم.
هذا التفاعل بين "الريف المهاجر" و"الريف المستقبِل" أطلق دينامية عمرانية جديدة تمثلت في نمو التوسع الأفقي غير المنظم، الذي كسر الحدود التاريخية للمدينة، وأجهز على الأعراف التي كانت تفصل بين الحقول والبيوت، بين الجبل والسهل، وبين الريف والعمران.
❖ من الواحة إلى المستوطنة غير الرسمية: حين انقطعت المدينة عن شريانها الأخضر
المدن السورية الكبرى لم تنشأ على هوامش الصدفة، بل تشكلت منذ آلاف السنين فوق الواحات، على حافة الصحراء، حيث تلتقي الهشاشة بالماء، ويُصبح التنظيم العمراني والزراعي شرطًا للبقاء. كانت دمشق، تحديدًا، مدينة–واحة؛ لا تنفصل عن الغوطة التي كانت تحيطها، وتزوّدها بالغذاء والماء وتضبط تمددها العمراني.
في هذا السياق، لم يكن الريف مجرد مساحة إنتاجية، بل شريكًا في تشكيل هوية المدينة وتوازنها البيئي والاجتماعي. لكن خلال العقود الأخيرة، ومع فشل الدولة في تطوير الريف أو حمايته، تآكل هذا الرابط التاريخي. لم تعد الغوطة حزامًا أخضر، بل صارت هامشًا معرضًا للضغط العمراني، ونقطة استقبال لموجات النزوح من أرياف بعيدة فقدت قدرتها على البقاء.
بهذا، بدأ ما يمكن تسميته بـ**"سرطان التخوم"**: تمدد أفقي غير منظم، يأكل الأراضي الزراعية شيئًا فشيئًا، ويُنتج أحياء عشوائية تفتقر للبنية التحتية، وتنفصل عن أي رؤية تخطيطية. ليس لأن الناس أرادوا بناءها بهذه الطريقة، بل لأن الدولة انسحبت من وظيفتها في التنظيم، وبات العمران يُنتج عفوًا لا تخطيطًا.
من هنا، لم تكن المستوطنات غير الرسمية، كما تسميها تقارير "UN-Habitat"، مجرد استثناء سكني، بل نتيجة مباشرة لغياب التوازن بين السكان، والبيئة، والاقتصاد. إنها ليست فقط عشوائيات سكنية، بل أيضًا مظهر من مظاهر فقدان العقد بين الدولة ومواطنيها.
❖ حين تأخرت الدولة، وزّعت الأرض بدل أن توزّع الصوت
في لحظة فارقة من التاريخ، فُصلت الأرض عن علاقتها العرفية بالإنتاج، ثم أُعيد توزيعها دون أدوات، فتهشّمت علاقتها بالجدوى. لم تُسترد الحقوق، بل أُعيد توزيع الغبن: من تفاوت الملكيات إلى تفتت الحيازات، من سلطة النخب إلى عجز الفلاحين، ومن غياب العدالة إلى غياب القدرة.
الإصلاح الزراعي، الذي أُريد له أن يكون تصحيحًا تاريخيًا، لم يفعل سوى تكريس الأزمة في شكل آخر. الأرض لم تُفهم كحق إنتاجي، بل كأداة سياسية. والمجال الريفي لم يُبنَ عليه مشروع استدامة، بل تُرك يتآكل، قطعةً قطعة.
وهكذا، خَسِرت المدينة ريفها الذي كان يحميها من تقلبات السوق، وخسر الريف مدينته التي كانت تحرس التوازن بين البشر والماء والزرع. وفي الفراغ الذي نشأ، تمدد العشوائي، وانهار التمثيل، وانحسرت الدولة إلى حدود الضبط الأمني لا التخطيط التنموي.
لم يفشل الريف لأنه فقير، بل لأن صوته لم يُسمع. وحين غاب الصوت، لم تُوزّع الحقول، بل قُطّعت. لم تُحترم الأرض، بل عُوملت كسلعة سكنية تنتظر من يشتريها.
وفي النهاية، لا يمكن فهم مأساة الريف السوري خارج سؤال المدينة، ولا يمكن إصلاح الحقل دون استعادة المعنى السياسي للعمران: أن توزع الأرض بعدل، وأن يُوزع معها الصوت.
حين فشلت الدولة في بناء نموذج زراعي عادل، لم تنتج فقط أزمة في الحقل، بل أطلقت سلسلة ارتدادات طالت المدينة نفسها. الأرض التي لم تُوزّع يومًا على أساس العدالة، أصبحت في عهد "التصحيح" أداة تعويم سياسي بلا إنتاج، ثم تحوّلت لاحقًا إلى وسيلة ضبط سكاني، لا موردًا للعيش أو السكن.
ومع دخول الدولة في طور "السيادة المعلّقة" على أراضيها، بدأت أدوات التخطيط تتآكل لصالح أدوات السيطرة: الموافقة الأمنية حلّت محل الترخيص، والجمعيات السكنية ارتبطت بجهاز الدولة لا بالمجتمع، وظهرت الجيتوهات السكانية كمستوطنات تحمل بذور الانقسام أكثر مما تحمل الحياة.
في المقال القادم، نتابع هذا التحوّل الخطير: من تفتت الحقل إلى خريطة السكن المقيد أمنيًا، ومن الأرض كحق إلى الأرض كامتياز، ومن المدينة كفضاء مشترك إلى مدينة تُبنى وفق خارطة غير مرئية من الولاء والمراقبة والتصنيف.




تعليقات