ماءٌ على إيقاعٍ مضطرب: كيف تصنع الفوضى سوقًا موازية وتسرق طمأنينة البيوت
- Ezzat Baghdadi
- 12 أكتوبر
- 4 دقيقة قراءة

تحوّلاتُ العام الماضي—من إحكام السيطرة الإسرائيلية على منابع سفوح جبل الشيخ، إلى شحّ الوقود وفوضى الطريق—حوّلت الماء من خدمة دورية إلى رحلة مكلفة. ومن هذه الفوضى وُلدت سوقٌ موازية تبيع الوقت والمرور بكلف متراكمة. الماء ليس خبرًا فنيًا ولا نشرةَ أعطال. الماء هو روتين الحياة: غسلة ثياب، حمّام طفل، إبريق شاي في آخر النهار. حين يختلّ هذا الروتين، تتسرّبُ الفوضى من الصنبور إلى الأعصاب. من دمشق وريفها إلى درعا والسويداء والقنيطرة، تسمع العبارات ذاتها بلهجات مختلفة: «اجت المي مبارح، بس اليوم—مافي»، «الصهريج صار أغلى لأن الطريق أطول»، «المضخّة جاهزة بس ما اجت الكهرباء». التفاصيل تتبدّل، أمّا القاعدة فثابتة: مياهٌ تصلُ على إيقاعٍ لا يُتوقّع.
هذه ليست مجرّد “مشاكل خدمة”. إنّه اقتصادٌ كامل ينمو على ظهر الاضطراب، يبيع الوقتَ والثقةَ والمرور بعلاواتٍ تتراكم فوق السعر الرسمي. وحين يطول عمر الاضطراب، تتحوّل العلاوة إلى عادة، والعادة إلى حقّ مكتسب لمن يربحون منها.
ضريبة اللايقين
في الأسواق المنتظمة، السعر يعكس الكلفة والمعرفة المسبقة. في أسواق الاضطراب، يولد بندٌ ثالث: ضريبة اللايقين. هي مبلغٌ غير مرئي في الجداول الرسمية، لكنه حاضرٌ في كل فاتورة صهريج وكل وقفة على خزّان عام.السعر الفعلي يصبح:رسمي + طاقة + رسوم طريق + علاوة سرعة/أولوية + علاوة ثقة/جودة + هامش مخاطر.كلّما زاد الاضطراب، اتّسعت هذه الهوّة، ودفع الناسُ من أعصابهم وأموالهم ما يسدّ فجواته.
من أين يُصنَع الربح؟
أربع محرّكات تُغذّي السوق الموازي:
المفصل الكهربائي: انقطاعٌ لا ينسجم مع جدول الضخ، أو محوّلاتٌ تنتظر صيانة. كل دقيقة عتمة تخلق طلبًا على الصهاريج. من يملك مولّدًا أو مازوتًا أقرب يبيع “الوقت” بربح.
الطريق كجزر ريع: تعدّد نقاط عبور ورسوم تتبدّل، فيتجزّأ السوق جغرافيًا؛ كل التفاف يزيد الكيلومترات ويبرّر سعرًا أعلى.
المعلومة سلعة: من يعرف “النافذة الذهبية” لضخّ الماء أو فتح الطريق يبيع هذه المعرفة. في بيئات الشائعات، تتحوّل الرسالة الصوتية إلى فاتورة.
العطل كأصلٍ مُدرّ: السلك المسروق أو القطعة المؤجّلة لا يوقفان السوق الموازي، بل ينعشان دورته النقدية. الأعطال الطويلة أصبحت، بوعيٍ أو بدونه، مصدر ربح.
أنماط ترى أثرها في كل حيّ
النافذة الذهبية: ساعة أو ساعتان يُضخّ فيهما. من يشتري داخل النافذة يدفع أكثر ليضمن نصيبه.
سعر الطابق: حين تعجز الشبكة عن رفع الماء للأدوار العليا، يصبح لكل طابق “تعرفة” غير معلنة، لأن السعر يشمل خدمة الضخّ.
اقتصاد الدور: “دَورك بعد ثلاثة”. الزمن سلعة، والقفز على الدور له ثمن.
مزج الجودة: خليطُ شبكة وبئر و“تعقيم”، مع علاوةٍ على كلمة “مُعالجة” بلا اختبار موثّق.
احتكار الحيّ: رخصةٌ واحدة أو بئرٌ خاصّ يفرض الأمر الواقع، وتتبادل المنافع مع من يملك مفاتيح الطريق.
هندسة الندرة: إعلانٌ متأخر عن الضخّ أو تغيير الجدول بلا إشعار يرفع شهية الدفع لعلاوة السرعة.
عدالةٌ مقلوبة
السوق الموازي لا يبيع الماء فقط، بل يبيع الزمن والثقة والقدرة على التخزين.من يملك خزّانًا كبيرًا ومضخّةً ومولّدًا يدفع، على المدى المتوسط، أقلّ من الفقير الذي يشتري بالغالون كلّ يومين. من يملك “واسطة” أو معلومة مُبكّرة يحجز نصيبه قبل الآخرين. هكذا تتكوّن شرائح أسعار متوازية: قريةٌ بعيدة تدفع أكثر من حيّ قريب، والطابق الخامس أغلى من الأول، و“الآن” أغلى من “غدًا”. يتقدّم من يملك الأدوات، ويستنزف من لا يملك إلّا الانتظار.
الصحة والكرامة هما الضحيتان الأوليان. حين ترتفع الفاتورة خارج القدرة، تؤجّل العائلةُ الملء، أو تختار ماءً أدنى جودة. تنعكس هذه الخيارات فورًا على النظافة، وعلى مزاج البيت، وعلى توتّرٍ يتراكم كالكَلس في الأنابيب.
لماذا هذا النظام عنيد وخطير؟
لأنه يموّل نفسه. الأرباح والرسوم تُعيد تمويل القائمين عليها، فتخلق حوافز لإطالة الأعطال وتأجيل الإصلاح. وهو ينقل الشرعية: الناس تتعامل يوميًا مع وسطاءٍ بلا مساءلة أكثر من تعاملها مع المرفق العام، فتتحوّل الشكوى والجباية وحلّ النزاعات إلى شبكةٍ ظلّ. ومع الوقت، يغلق مسارات الإصلاح: استثمارات الصهاريج والآبار والمولّدات تُنشئ لوبيًا يخسر مع أي انتظام حقيقي.
كيف نقيس الاضطراب… وكيف نقلّصه؟
الرؤية من فوق لا تكتمل بلا أقدام على الأرض. مؤشراتٌ بسيطة لكنها كاشفة:
فجوة السعر بين التعرفة الرسمية وسعر الصهريج في الأحياء.
انتظام نافذة الضخ بساعتين معلومتين يوميًا، لا “المتوسط” النظري.
عدد الحواجز ورسوم الطريق وتقلّباتها، ومتوسط التأخير لكل رحلة.
زمن إصلاح الأعطال من البلاغ إلى العودة للخدمة. كل يومٍ إضافي يساوي نقودًا في جيب السوق الموازي.
حين تتقلّص الفجوة ويتكرّر الضخ في وقتٍ ثابت، حتى لو قصير، وحين يهدأ الاحتكاك على الطرق، يبدأ الناس بالتصرّف بثقة: يخطّطون للغسيل، يملؤون الخزّانات دون فزع، ويتراجع استعدادهم لدفع علاوات.
مفاتيح عملية لإطفاء “مرابح اللايقين”
المطلوب ليس معجزة، بل تفكيك الحوافز التي تُغذّي الفوضى:
نافذة ضخّ ثابتة ومُعلَنة كل يوم—حتى لو ساعة—تسحب أهم سلعة يبيعها الوسطاء: الوقت.
ميثاق مرور للصهاريج بمساراتٍ وجدولٍ وإعفاءات تفتيش محدّدة، تُعلن مسبقًا—فتنكمش جزر الريع على الطرق.
تشغيل محلي مُساءَل بعقودٍ قصيرة ومؤشرات أداء واضحة (مدة التشغيل، سرعة الاستجابة)، مع مكافأةٍ للالتزام وغرامةٍ للتقصير.
صندوق قطع غيار سريع بمهلة بتّ وإصلاح مقيسة بالأيام لا الأسابيع.
قناة معلومة واحدة في الحيّ تُعلن الضخّ والأعطال والبدائل، فتخمد سوق الشائعات.
اختبارات جودة دورية مُعلنة عند نقاط البيع الجاهزة، تفصل السعر عن الادّعاء.
وحين نرسم، مع القادة المحليين، خريطة النقاط الحرِجة—محطة ضخّ، قاطع كهربائي، وصلة رئيسية، خزّان عام—نكتشف أنّ التدخّل الدقيق في خمسة أو ستة مواضع قادرٌ على تغيير أسبوعٍ كامل من حياة حيّ. ليس لأن العالم أصبح أفضل، بل لأن الإيقاع صار معلومًا.
خاتمة: الماء ميزانُ السياسة اليومية
المؤشّر الذي نعلّمه بالقلم الأحمر هو فجوة السعر بين الرسمي وما يدفعه الناس فعلاً؛ والمؤشّر الذي نضع حوله دائرة خضراء هو انتظام نافذة الضخّ في ساعتين معلومتين كل يوم. عندما يهبط الأحمر وتتثبّت الخضراء، أعرف أنّ الجنوب يبتعد خطوة عن كونه “لوح عدّادات” لرسائل الآخرين، ويقترب من فضاءٍ يمكن التفاوض فيه على حياةٍ يومية أقلّ هشاشة.
الماء طريقةٌ عملية لقياس السياسة. كلّما اقترب من البيوت، ورخص ثمنه، وثبت وقته، تراجعت ضريبة اللايقين، وخفتت السوق السوداء، وهدأت الأعصاب. وهذه، في بلدٍ اختنق بالشعارات، هي السياسة التي تُقاس في المغسلة والحمّام وإبريق الشاي.




تعليقات